أخر الأخبار
الصفحة الرئيسية عربي ودولي طرد الفرنسيين وتنازل عن راتبه .. هل يختلف...

طرد الفرنسيين وتنازل عن راتبه .. هل يختلف إبراهيم تراوري عن أي قائد انقلاب آخر في أفريقيا؟

07-08-2023 07:08 PM
الشاهد -

في الفترة الأخيرة استطاع رئيس أفريقي شاب في ربيعه الخامس والثلاثين اسمه إبراهيم تراوري أن يخطف الأنظار على الساحة الدولية، رغم أنه يقود دولة تُعَدُّ من أفقر دول العالم وهي بوركينا فاسو. لمع نجم إبراهيم تحديدا بعد خطابه الذي وُصف بـ"التاريخي" في القمة الروسية الأفريقية في سان بطرسبرغ، وهو الخطاب الذي دارت الأخبار حوله، ولفت الأنظار إليه، في ظل شعبية تنامت عقب إقدامه على طرد فرنسا من البلاد.

استقبل العديد من المتابعين في أفريقيا والعالم الثالث أخبار إبراهيم تراوري ومقاطعه بتفاؤل، باعتباره يجسد جيلا جديدا من الشباب الأفارقة المتمردين على "الكولونيالية الجديدة" والطامحين بجرأة لرسم مستقبل مغاير لبلادهم عن الماضي الأليم. لكن في الوقت نفسه، حذَّر آخرون من أن العسكري الشاب هو مجرد قائد انقلاب عسكري مثله مثل كل هؤلاء الانقلابيين الذين استولوا على حكم القارة في القرن الماضي ورسخوا الاستبداد والفساد فيها رغم وعودهم البراقة.

لذلك، جئنا اليوم لنبحث في دفاتر هذا القائد البوركينابي الجديد، فما قصته؟ وعلى ماذا يرتكز مشروعه السياسي؟ وهل يُشكِّل طفرة حقيقية في الحكم في أفريقيا، أم أنه كغيره ممن سبقوه، وصل إلى الحكم بدبابة، ولن يتركه إلا بدبابة أقوى كما هي عادة انتقال السلطة في أفريقيا؟

النقيب و"الرفيق"

شكَّل يوم 30 سبتمبر/أيلول 2022 يوما استثنائيا في تاريخ بوركينا فاسو، وذلك حينما قام إبراهيم تراوري الذي لم يكن يحمل سوى رتبة "نقيب" بانقلاب خاطف ناجح، هو الثامن في تاريخ البلاد والثاني في أقل من 9 أشهر. ورغم الوضع الصعب وغير المستقر، نقلت أغلب وسائل الإعلام العالمية أن التفاؤل (1) والمساندة يسودان الشارع البوركينابي تجاه هذا القائد الجديد، كما وصفت (2) وسائل الإعلام الفرنسية إبراهيم منذ الأيام الأولى لانقلابه بـ"الرجل القوي".

يتمتع إبراهيم تراوري في رأي البعض بكاريزما واضحة، ومن ثم فقد بدأت شعبيته في الصعود منذ اليوم الأول لظهوره. لكن ليست وحدها الكاريزما المختلفة التي جعلت انقلاب إبراهيم تراوري يبدو مختلفا في نظر البعض عن باقي الانقلابات العسكرية المعتادة في أفريقيا، فللقصة جوانب أخرى عميقة لا يمكن اختصارها في خطاب شجاع وصورة بملامح حادة.

بول هنري داميبا" الذي قام بانقلاب عسكري ناجح ضد السلطات المنتخبة في يناير/كانون الثاني عام 2022. (رويترز)

كانت بوركينا فاسو أكثر (3) دول الساحل الأفريقي معاناة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث تفاقمت الأزمة الاقتصادية في البلد الفقير وارتفعت أسعار السلع الأساسية لمستويات وصلت إلى 30%. حدث ذلك في ظل حكم "بول هنري داميبا" الذي قام بانقلاب عسكري ناجح ضد السلطات المنتخبة في يناير/كانون الثاني عام 2022، وكان المسوغ الذي قدّمه لانقلابه هو فشل السلطة السابقة في التصدي الحازم لهجمات "الجماعات المسلحة الإسلامية"، رغم أنه في الحقيقة خسر المزيد من الأراضي لصالح الجماعات نفسها، إذ لم تعد (4) القوات النظامية تسيطر إلا على 60% من مجموع أراضي البلاد بعد توالي هزائم جيشها بقيادة "داميبا".

على الجانب الآخر كانت القوات الفرنسية رازحة في البلاد، حيث فشلت (5) على مدار السنوات السابقة في القضاء على الجماعات المسلحة التي تسببت هجماتها في نزوح مليونَيْ بوركينابي، وقد وصلت مشاعر الكراهية تجاه باريس داخل بوركينا فاسو إلى ذروتها مع هذا الفشل العسكري، فقد شكَّلت فرنسا في نظر الشعب البوركينابي مجرد دولة استعمارية استغلَّت أفريقيا وأفقرتها لعقود طويلة، مع محافظتها على نفوذها داخل القارة رغم انسحابها العسكري منها بعيد سنوات الاستعمار. ليس هذا وحسب، بل انتشرت في بوركينا فاسو نظريات تقول إن فرنسا هي أصلا مَن تصنع الإرهاب وتدعمه في الساحل كي تحافظ على نفوذها هناك، كما لم ينس الجيل البوركينابي الحالي دعم (6) باريس للدكتاتور "بليز كومباوري" الذي حكم البلاد بعد انقلاب دموي على زعيمها الثوري اليساري "توماس سانكارا" في عام 1987 حتى أطاح به الشعب في عام 2014.

استشرى الفشل الفرنسي في الوقت نفسه الذي كانت تدير فيه روسيا حملة إعلامية شديدة النجاح في بوركينا فاسو ضد باريس، فقد وسَّعت (7) موسكو عروضها الدعائية في البلاد باللغة الفرنسية، كما باتت بوركينا فاسو من أكثر الأسواق التي نجحت فيها وسائل الإعلام الروسية الناطقة بالفرنسية في التغول داخل المشهد الإعلامي، وتشير بعض التقارير إلى أن روسيا استخدمت (8) وسائل التواصل الاجتماعي لما اعتبره محللون إذكاءً للكراهية ضد الدولة الاستعمارية السابقة. واستطاعت روسيا خلال السنوات السابقة أن تصبح حاضرة في الوجدان الشعبي البوركينابي باعتبارها "القوة المناهضة للإمبريالية الغربية"، وصار علمها حاضرا في المظاهرات بوصفها "طوق النجاة" الذي يمكن أن يخلص بوركينا فاسو من الاستغلال الفرنسي كما يحلم قطاع عريض من البوركينابيين.

شهدت (9) بوركينا فاسو في العام الذي انتهى بانقلاب تراوري أسرع تدهور أمني بين جميع بلدان الساحل مع 3252 حالة وفاة، كما وصلت نسبة النازحين في البلاد إلى نحو نازح من كل 10 سكان. باختصار كانت كل الأمور مهيأة للانقلاب، إذ إن أحدا لم يكن يتخيل أن الأسوأ لم يحدث بعد، بالإضافة إلى أن انقلاب إبراهيم كان قد جرى ضد سلطة انقلابية هي الأخرى وليست سلطة منتخبة، مع قطعه وعدا بتسليم السلطة في منتصف 2024.

في الواقع، يبدو أن قدرة تراوري على التأثير في الآخرين ملحوظة، فقد شارك في إنجاح انقلاب داميبا، وبعد شهور عاد النقيب في إجازة من خط المعارك مع الجماعات المسلحة، حيث كان قائدا (10) لفوج المدفعية في كايا، عاصمة المنطقة الشمالية الوسطى من بوركينا فاسو، وهو المنصب الذي شغله منذ مارس/آذار 2022. بعد عودته طلب (11) تراوري مقابلة الرئيس ليبلغه بما رأى من مظالم الضباط والجنود على الجبهة، وحين لم يستجب الرئيس للقاء، أطاح به إبراهيم ذو الرتبة الصغيرة بعد أسابيع معدودة، مستغلا حنق الجنود ذوي الرتب الصغيرة الذين يحاربون على الجبهات دون تقدير مادي (12) أو معنوي أو سلاح مناسب بينما يتنعم الجنرالات الكبار بالسلطة، فضلا عن الغضب من الهزائم المذلة للجيش أمام المتمردين العِرقيين والجماعات المسلحة.

لا يُمثِّل إبراهيم تراوري الصورة المعتادة للضابط المنقلب صغير السن الذي لا يجيد إلا حمل السلاح، فالواقع أنه قد حصل على شهادة بتقدير امتياز في دراسة الجيولوجيا من جامعة "واغادوغو" في عام 2006 قبل أن ينضم للجيش. وتدور بعض شهادات مَن عرفوه قبل انقلابه حول ذكائه وتحفظه، كما أظهر شجاعة وانضباطا (13) أثناء المواجهات مع الجماعات الجهادية المسلحة والمتمردين العِرقيين، وقد كان قادرا على نيل (14) إعجاب قادته منذ التحاقه بالجيش البوركينابي، بالإضافة إلى أنه يحافظ (15) على علاقة وثيقة مع الرجال الذين يقاتلون تحت يده.

لكن ليست كل الشهادات حول شخصية إبراهيم إيجابية، فبعض هذه الآراء تدور حول أنه شخص متلاعب (16)، وربما ظهرت هذه السمة بوضوح كبير فيما فعله مع فرنسا خلال الأيام الأولى لانقلابه، إذ أطلق تراوري عبر أحد معاونيه الضباط شائعة منافية للحقيقة حول أن الرئيس البوركينابي المخلوع داميبا يحتمي داخل السفارة الفرنسية ويدبر من هناك خطة للاستيلاء مرة أخرى على الحكم، وقد دفعت تلك الشائعة المتظاهرين في بوركينا فاسو لمهاجمة السفارة الفرنسية والمركز الثقافي الفرنسي.

استطاع إبراهيم عبر تلك الشائعة التي نفتها فرنسا أن يحوِّل باريس إلى وضع المدافع عن نفسها أمام تهمة الدولة الإمبريالية الداعمة "للدكتاتور المخلوع" في مواجهة شعب يكرهها، بدلا من أن تهاجم هي بدورها انقلاب تراوري الذي "يصب في مصلحة روسيا" وتبدأ في الضغط الدولي عليه. عاد (17) تراوري بعد أن أجبر باريس على نفي صلتها بمحاولة تمكين داميبا مرة أخرى، وبعد أن شحن الشارع ضدها لأقصى مدى، ليُعرب عن أسفه على الهجمات التي تعرضت لها السفارة الفرنسية.

تعود شعبية تراوري الإسلامية في جزء منها إلى كونه أول رئيس مسلم لبوركينا فاسو منذ "سانجوليه لاميزانا"، أي منذ عام 1980، إذ عانى المسلمون من مظالم كثيرة في العقود الأخيرة في البلاد. (Anadolu)

في الأخير استطاع تراوري بسبب عوامل شخصية وأخرى موضوعية أن يكسب الشارع من اليوم الأول لانقلابه وفق ما يظهر من أخبار متتالية، إذ أوضح ميلا لفكرة أصبحت ذات زخم كبير في البلاد؛ وهي الوحدة الأفريقية وربط اسمه بها. وبجانب الشارع، حصل تراوري على تأييد الأحزاب السياسية في البلاد، التي تراوحت مواقف أغلبها بين تأييده صراحة وبين الموافقة في صمت على تحركاته، أو عدم معارضة هذه التوقعات على أقل تقدير.

ورغم مسيرة تراوري في محاربة الجماعات الإسلامية المسلحة، ومشروعه الذي بُني على مقاومة تلك الجماعات واستعادة الأراضي البوركينابية منها، يتمتع الرجل بشعبية كبيرة بين السكان المسلمين بالبلاد، حتى من يصفونهم بـ "السلفيين الوهابيين" (18) الذين يدعمون توجهه نحو الفكاك من الهيمنة الفرنسية وتوجيه البوصلة نحو موسكو. وتعود شعبية تراوري الإسلامية في جزء منها إلى كونه أول رئيس مسلم لبوركينا فاسو منذ "سانجوليه لاميزانا"، أي منذ عام 1980، إذ عانى المسلمون الذين يمثلون غالبية السكان (نحو 60%) من مظالم كثيرة في العقود الأخيرة في البلاد، وهو ما جعل شريحة واسعة من المسلمين تبدي ارتياحا لوصول إبراهيم تراوري لزعامة المشهد، خاصة أنه يظهر دائما التعبيرعن تدينه مع حرصه على التأكيد أن "إيمانه هو الذي يقود تحركاته"، وقد استند خطابه الأخير في سان بطرسبرغ إلى لهجة يسارية ثورية، وفي ذات الوقت تحمل صبغة دينية.

على جانب آخر، ورغم أن تراوري يُمثِّل جيلا جديدا من القادة الانقلابيين في أفريقيا، مثل "محمد دومبويا" في غينيا و"أسيمي جويتا" في مالي، فإن الرئيس البوركينابي على عكس (19) العديد من القادة الأفارقة الانقلابيين لم يُظهر أي رغبة في الاستمرار في السلطة بعد انقلابه (على الأقل حتى اللحظة)، وكرر أنه يقوم فقط بتسيير المرحلة الانتقالية إلى حين تسليم السلطة، وقد اشتملت خارطة الطريق التي أطلقها الحوار الوطني بعد انقلابه على ألا يُسمح له بالترشح، بل إنه كان يقول لوزرائه صراحة إنه يعلم أنه أصغرهم سِنًّا، لكن الظروف حتمت هذا الموقف، ووفق الخطة فمن المفترض أن يقوم إبراهيم بتسليم السلطة في يوليو/تموز 2024.

قد يكون الظهور بهذا المظهر وجميع الخطوات السابقة التي اتخذها، تمثّل ذكاءً حادّا ووعيا من قبل إبراهيم تراوري بما يجب أن يُقال في هكذا مرحلة انتقالية مليئة بالاضطرابات والتغيّرات حتى يهدئ المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والرأي العام الدولي تجاه انقلابه إلى حين استجماع قوته الضاربة وإعلان نفسه رئيسا للمرحلة المقبلة أيضا، ووحدها الأيام ستثبت أي المسارات التي سيختارها تراوري. جدير بالذكر أن ثقة البوركينابيين بالفلسفة الديمقراطية الغربية قد تآكلت على مدار السنوات السابقة، وأصبح المزاج العام مؤيدا لفكرة الفرد المخلّص.

بيد أن شعبية إبراهيم تراوري التي بناها خلال الفترة الوجيزة التي حكم فيها حتى الآن لم تعد تقتصر على حدود بوركينا فاسو، لكنها توسعت عالميا، ويطلق (20) عليه البعض لقب تشي تراوري نسبة إلى تشي جيفارا (للمفارقة فإن سانكارا كان يُلقب بتشي جيفارا الأفريقي)، وبالنسبة للشعب البوركينابي نفسه فقد أصبح قطاع عريض يشبّهه بالزعيم الثوري المحلي "توماس سانكارا" الذي قاد البلاد في الثمانينيات وهو في عمر إبراهيم تقريبا بعد انقلاب عسكري أيضا، كما أنه كان يرتدي قبعة حمراء مثل قبعته، ليحقق نجاحات اقتصادية بارزة في البلاد، متحررا من هيمنة صندوق النقد الدولي ووصفاته، ومُجابها أيضا النفوذ الفرنسي، قبل اغتياله في حادثة وُجِّهت أصابع الاتهام فيها لفرنسا.

يردد إبراهيم تراوري عبارات "سانكارا" نفسها، ويؤكد رئيس وزرائه أنه لا يتخيل (21) تطوير بوركينا فاسو خارج الإطار الذي رسمه سانكارا من قبل، كما نقل الرئيس البوركينابي الحالي رفاة سانكارا إلى نصب تذكاري يليق بتاريخه بدلا من المدفن المتواضع السابق. ويشمُّ الناس في بوركينا فاسو في إبراهيم رائحة رئيسهم المقتول غدرا، الذي شهدوا في عهده نجاحا اقتصاديا وإصلاحات استثنائية وتمردا على الهيمنة الغربية.

رئيس وزراء يساري

يرتبط تراوري بسانكارا أكثر مما يبدو للوهلة الأولى، وهو ما يظهر في اختياره للمسؤول الأهم في حكومته، وهو ناشط يساري بوركينابي سابق يُدعى (22) "كيليم دي تامبيلا"، عاش في فرنسا خلال الثمانينيات، حيث كان ينظم النشاطات المختلفة لدعم سانكارا. أرَّخ دي تامبيلا الذي أصبح محاميا وأكاديميا في كتابه الشهير "توماس سانكارا والثورة في بوركينا فاسو، التجربة والتنمية المتمحورة حول الذات" لتجربة سانكارا، مستشهدا (23) داخل الكتاب بأفكار كارل ماركس وفرانز فانون وسمير أمين وروزا لوكسومبورغ وغيرهم من أعلام الفكر اليساري.

سيعود هذا الناشط اليساري الداعم سابقا لتجربة سنكارا بعد انقلاب إبراهيم تراوري حين عُيِّن رئيسا للوزراء في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2022، مُعلنا أن أهداف حكومته هي تأمين البلاد، والارتقاء بالمعيشة وتحسين نظام الحكم، موضحا في الآن ذاته أنه لا يمكن تطوير البلاد خارج الخط الذي رسمه سانكارا من قبل، وأنه ينبغي التوقف عن استيراد ما يمكن إنتاجه، للوصول إلى استقلال اقتصادي من أجل التنمية.

كيليم دي تامبيلا (AFP)

يدل اختيار تراوري لأكاديمي ومؤلف مثل "كيليم دي تامبيلا"، الذي يشاركه مواقفه في تمجيد فترة سانكارا ورفض "الإمبريالية الغربية"، أن إبراهيم تراوري ربما ليس مجرد ضابط صغير متمرد، وإنما رجل يملك تصورا عن أزمة بلاده، كما أنه عكس الكثير من العسكريين، لا يشعر بمشاعر النبذ والاحتقار تجاه المثقفين، وجدير بالذكر هنا أن النقيب إبراهيم رفض (24) اقتراحا في البداية من كيليم دي تامبيلا نفسه بأن يتفرد هو بالحكم بدون رئيس وزراء، وعلى ما يبدو فإن بصمات كيليم النظرية ودراسته العميقة للتجربة الثورية لسانكارا تتضح في خطابات إبراهيم والعديد من خطواته.

جدير بالذكر أن كيليم كان له موقف نقدي قديم بعيد النظر تجاه روسيا وتجاه المتظاهرين الأفارقة الذين يرفعون الأعلام الروسية من قبل، وقد قال (25) صراحة ذات مرة: "روسيا أكثر استغلالية من فرنسا. اسألوا عن الأخبار من الصومال وإثيوبيا وأنغولا".

ميلاد أفريقيا الجديدة

"نحن الشعوب المنسية في هذا العالم".

(إبراهيم تراوري)

لفهم التحول الذي يمثله إبراهيم تراوري بشكل أفضل، ربما علينا أن نضعه في السياق العام للتحولات الجارية في القارة السمراء. يُمثِّل تراوري جيلا من القادة الانقلابيين الأفارقة صغار السن مثل العقيد الغيني مامادي دومبويا (المولود عام 1981)، والعقيد المالي أسيمي غوتا (المولود عام 1983)، والأول والثالث تحديدا يتشاركان في سمة أساسية هي النقمة على فرنسا و"الإمبريالية الغربية" مع الميل تجاه التحالف مع روسيا في الوقت نفسه، وقد كانت النيجر آخر المنضمين لهذا التيار الانقلابي من خلال انقلابها العسكري يوم 26 يوليو/تموز 2023. جدير بالذكر أن إبراهيم تراوري قد طالب (26) النيجر بعد الانقلاب مباشرة بإنشاء تحالف أوثق بينها وبين بلاده.

تبلور هذا الحس الناقم على الغرب بين الجيل الجديد من الأفارقة مع بداية العقد الحالي، حيث ساهمت (27) جائحة كوفيد والحرب الروسية على أوكرانيا في انخفاض واضح في الأموال والمساعدات الأوروبية لدول الساحل، كما بيَّنت الحرب الأوكرانية ما يوصف من قبل محللين باعتباره "ازدواجية المعايير الغربية" في التعامل مع المشكلات حين تمس السكان البيض في العالم، والتعامل مع الكوارث التي يعيش فيها الأفارقة منذ عقود وتسبَّب الأوروبيون من الأساس في العديد منها، وقد كانت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إكواس" قد انتقدت (28) من قبل بوضوح الاتحاد الأوروبي لعدم استثماره موارد كافية لتحقيق الاستقرار في أفريقيا، وأنه لا يلبي الاحتياجات الحقيقية للبلدان الأفريقية.

قدم إبراهيم مقترحا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنشاء محطة طاقة نووية في بوركينا فاسو لسد الاحتياجات الكهربائية، ودعم علنا فكرة إنشاء عالم متعدد الأقطاب. (رويترز)

اتخذ تراوري خلال العام الذي حكم فيه خطوات جريئة للفكاك من "الهيمنة الغربية" والاقتراب من روسيا، كان أهمها طرد القوات الفرنسية من بلاده وحظر إذاعة فرنسا الدولية من الدولة، كما عبَّر هو ورئيس وزرائه -الذي كان قد انتقد سابقا موسكو وتحركاتها في أفريقيا- بوضوح أكثر من مرة عن أن روسيا هي الشريك الحقيقي (29) لبوركينا فاسو، وقدم إبراهيم مقترحا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنشاء محطة طاقة نووية في بوركينا فاسو لسد الاحتياجات الكهربائية، ودعم علنا فكرة إنشاء عالم متعدد الأقطاب، هذا فضلا عن تقوية (30) علاقات بلاده مع إيران وإعادة فتح السفارة البوركينابية في طهران، والإعلان الرسمي عن دعم الصين والالتزام بمبدأ (31) "الصين الواحدة".

تشترك هذه السياسات جميعا في كونها "مناهضة للغرب" بشكل عام، ويمكن فهمها ضمن إطار واحد هي السعي لوحدة أفريقية في مواجهة الهيمنة الغربية، وهو الأمر الذي ربطه إبراهيم باسمه منذ الأسابيع الأولى لحكمه، فمنذ صعوده إلى سُدة الحكم، أصبح (32) مصطلح "الولايات المتحدة الأفريقية" رائجا في شوارع بوركينا فاسو، حيث دعم قادة الانقلاب الجديد بقوة فكرة إنشاء اتحاد فيدرالي للدول الأفريقية، خاصة أن الجمهور ذا الهوى الوحدوي الأفريقي يُعَدُّ من الدعائم الرئيسية لشعبية تراوري في بوركينا فاسو. وقد بدأ تراوري في اتخاذ خطوات واضحة لتحقيق هذا الحلم، بداية من زيارات رئيس الوزراء كيليم دي تامبيلا لمالي وطلبه من السلطات المالية الإسراع في البدء بمشروع الوحدة الأفريقية، إذ بات الاتحاد مع مالي وغينيا مبدئيا حلما تُتخذ خطوات بوركينابية جدية فيه، حيث ترى واغادوغو أن أفريقيا المقسمة هشة وسهلة الاستغلال ولا سبيل لمواجهة تحدياتها إلا من خلال اتحادها.

باتت هذه الرغبة المُلحة في إنشاء اتحاد أفريقي واضحة عند القادة الانقلابيين الجدد في أفريقيا عموما، وظهر هذا جليا في تصريح دي تامبيلا بأن مالي وبوركينا فاسو اتفقتا على "وضع حجر الأساس" لإنشاء الاتحاد بينهما بشكل لا يمكن تفتيته في المستقبل، وقد عبرت الثقافة أيضا عن الشعبية التي تحظى بها هذه الفكرة بين شعوب الساحل، إذ سار (33) مواطن مالي في ماراثون على الأقدام من بلاده إلى بوركينا فاسو تحت شعار دعم فكرة الاتحاد، كما  اختار أهم مهرجان للسينما والتلفزيون في بوركينا فاسو مالي لتكون ضيفة شرف المهرجان عام 2022.

على الجانب المقابل من الصورة، توجهت الكثير من الانتقادات لهذا الجيل من القادة الأفارقة الشباب بسبب ميلهم المفرط تجاه روسيا، الذي قد يراه البعض "استبدالا لإمبريالية بإمبريالية جديدة"، خاصة في ضوء استعانة مالي بفاغنر بدلا من فرنسا على سبيل المثال في جهودها المناهضة لـ "الجماعات الجهادية المسلحة" التي لم تسفر (34) حتى الآن عن أي نجاحات ملموسة، إذ ظلت الهجمات تمتد في البلاد، كما أن المنظمات الحقوقية تحدثت عن انتهاكات ومجازر (35) ضد المدنيين ترتكبها فاغنر أثناء عملها. رغم ذلك، يمكن رؤية هذا الميل تجاه روسيا في ضوء قناعة أفريقية نامية بأن البلاد السمراء لا يمكن أن تزدهر وتتحد إلا في سياق عالم متعدد الأقطاب يمكنها فيه المناورة، مما يتطلب صعود روسيا والصين.

حصاد تراوري

اختار إبراهيم التنازل عن راتبه رئيسا واحتفظ فقط بالراتب الذي كان يتقاضاه نقيبا في الجيش (رويترز)

كما أسلفنا، نجح إبراهيم تراوري في حصد شعبية كبيرة خلال فترة قصيرة لأسباب ظاهرة كثوريته ضد فرنسا والكاريزما الشخصية التي يتمتع بها، وسعيه لحلم الوحدة الأفريقية، بجانب العامل الديني الذي يتشارك فيه مع دين أغلبية مضطهدة في البلاد. لكن بعيدا عن الأفكار الكبرى والمشاعر الشعبية المبنية على القرارات اللحظية أو السمات الشكلية والشخصية، ما الحصاد الحقيقي حتى الآن للرئيس الشاب خلال فترة حكمه للبلاد؟

على صعيد الإدارة الداخلية للبلاد، اتخذ إبراهيم قرارات ذات رواج شعبي كبير، فبينما رفع سلفه داميبا راتبه ورواتب وزرائه، اختار إبراهيم التنازل (36) عن راتبه رئيسا واحتفظ فقط بالراتب الذي كان يتقاضاه نقيبا في الجيش، كما دفن (37) الزعيم الثوري توماس سانكارا والثوار اليساريين الآخرين الذين اغتيلوا معه بمكان لائق باسمه ومسيرته في مراسم حضرها المسلمون والكاثوليك والبروتستانت.

على الصعيد الاقتصادي، فإن الأوضاع قبل مجيء إبراهيم كانت كارثية، حيث كان يقبع 40% من السكان تحت خط الفقر، كما احتلت (38) بوركينا فاسو المرتبة 184 من بين 191 دولة في تقرير دليل التنمية البشرية 2021-2022 لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وقد ارتفع العجز المالي في البلاد عام 2022 إلى 10.6% من الناتج المحلي، بينما يُشكِّل الدين المحلي عالي الفائدة جزءا كبيرا من الدين العام في البلاد، هذا كله فضلا عن الكوارث الاقتصادية التي جلبها تغير المناخ.

لا تبشر مؤشرات وأرقام البنك الدولي على كل حال بخير قريب، إذ من المتوقع أن يظل (39) عجز المالية العامة مرتفعا في السنوات القليلة القادمة، مع ذلك تقول تقارير البنك الدولي إن بوركينا فاسو ما زالت تُظهر قدرتها على الصمود رغم المصاعب الكبيرة التي تواجهها. لكنْ هناك شيء يمكن أن يحسِّن كثيرا ويدفع خطوات بوركينا إلى الأمام ويرفع أرقام النمو ربما إلى 5.1% بحلول 2025، ألا وهو تحقيق الاستقرار الأمني في البلاد واستعادة الأراضي المسلوبة، ومن ثم تخفيض الإنفاق العسكري الكبير بعد ذلك وجذب التمويل الميسر، والواقع أن هذا هو الاختبار الأهم لإبراهيم؛ القدرة على مواجهة الجماعات المسلحة، بما أن هذا كان من أهم وعود انقلابه.

ولتحقيق هذا الهدف، استحدث تراوري حتى الآن إستراتيجية جديدة لإدارة الحرب، فمن جهة عيَّن قادة جددا في المناطق العسكرية، وشكَّل كتائب جديدة للتدخل السريع، لكن الأهم من ذلك هو الإعلان عن تجنيد 50 ألف متطوع في الجيش (40)، وهي الخطوة الثورية التي ربما لا تهدف فقط إلى تحقيق نصر سريع في الحرب، وإنما إلى تحصين الجيش الذي لا يزال (41) يحتوي عناصر مؤيدة لنظام الحكم السابق من خلال إدخال عناصر جديدة. ومن جانب آخر، فقد شارك المواطنون في بوركينا فاسو بتبرعات (42) للمجهود الحربي وصلت إلى مليار فرنك أفريقي (1.5 مليون يورو).

لكن رغم ذلك ما زال الجيش بقيادة زعيمه الجديد بعيدا عن الانتصار في الحرب، إذ يعترف إبراهيم تراوري نفسه بأن خصومه زادوا (43) من عددهم وعتادهم في الفترة الأخيرة، ومن ثم فإن ملجأه لتسليح جيشه الآن بأسلحة فائقة بما فيها الدرونز هي روسيا، وفي ضوء ذلك، أعطت (44) بوركينا فاسو لمجموعة "نورد جولد" الروسية تصريحا لاستغلال موقع الذهب بالمنطقة الشمالية الوسطى لمدة أربع سنوات.

رغم شعبيته الكبيرة، لم يتمكن إبراهيم تراوري حتى الآن من اتخاذ خطوات تغير حياة المواطن البوركينابي بشكل ملموس، ورغم راديكاليته في إدارة الحرب، وفي إدارة الشؤون الخارجية في البلاد، فإنه حتى الآن لم يُظهر بصمات واضحة مع رئيس وزرائه فيما يتعلق باتخاذ خطوات جريئة لإدارة الاقتصاد البوركينابي تُحدِث ثورة اقتصادية في البلاد، كما سبق أن حقق ذلك ملهمهم سانكارا في الثمانينيات، وإن كان من الواضح اتخاذهم لخطوات سياسية يمكنها التهيئة في المستقبل لمساحة أكبر من الاستقلال الاقتصادي تمهد لاتباع برامج تطور اقتصادي طموحة وجريئة وبعيدة عن وصفات المؤسسات المالية الغربية التي لم تشهد معها أفريقيا نجاحا يذكر.

يمتلك إبراهيم تراوري فرصة سانحة، فهل يستطيع أن يحفر اسمه ضمن الثوار والقادة الأفارقة الكبار الذي مروا مرورا مختلفا عن كلاسيكيات الديكاتاتوريات التابعة للغرب؟ فهل حقا سيتخلى عن السلطة لإعادة المسار الديمقراطي، أم سيمضي في طريق الانقلابيين المعتاد؟. أما الإجابة عن هذه الأسئلة فتحتاج الكثير من العمل، بدءا من وضع خطة اقتصادية متماسكة، والتسلح بكل هذا وأكثر لمواجهة الضغط الغربي الصعب الذي تتزعمه فرنسا، والتي لم تقبل بسهولة الانسحاب بخُفي حنين من مناطق كانت حتى الأمس القريب تسبح باسمها، وتمنحها ثرواتها طوعا وكرها. الجزيرة

 

 

 




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :