أخر الأخبار
الصفحة الرئيسية اجتماعي من الحياة .. تعلـّمت لتعلـّم طفلتها

من الحياة .. تعلـّمت لتعلـّم طفلتها

25-09-2013 02:50 PM
الشاهد -

اعداد جمال المصري
أسرة صغيرة .. أب وأم وطفلة تدعى ميس .. كان الأب قد تزوج منذ خمس سنوات ويعمل موظفاً بسيطاً براتب شهري بسيط جداً ، ومنزل صغير بالكاد توجد فيه أساسيات سبل الحياة ، وشاء الله أن لا يرزق الوالدان سوى بهذه الطفلة ، فكانت هي كل حياتهما وكانت تبلغ من العمر الأربع سنوات ، وفجأة وبدون أعراض مرض ولكن كانت هي مقادير الله سبحانه وتعالى يتوفى الأب .. ولم يكن له سوى أختين متزوجتين بائستي الحال ولا يسكنّ في نفس المدينة التي يسكن فيها أبو ميس .
ويقدّر الله للأم والطفلة أن يكون لهنّ راتب تقاعد بسيط بعد وفاة الزوج، يستر عليهما ويكفيهما عوز الناس .. وفي العام التالي لم تستطع الأم إدخال الطفلة في روضة لتتعلم لضيق الحال .. وانتظرت للعام التالي وعندما حان وقت التسجيل المدرسي للطالبات الجدد أخذت بيد طفلتها وذهبت للمدرسة القريبة من المنزل وقامت بتسجيلها .. ومرّت الأيام وحان يوم الغد والذي هو اليوم الأول للدراسة ، وذهبن سوية وابتاعت لأبنتها الحقيبة المدرسية ولوازم ألقرطاسيه اللازمة .. وكانت فرحتهن لا توصف .
نامت الطفلة ميس باكراً من شدّة لهفتها إلى شروق شمس يوم غد ، والأم مستلقية على السرير بجوارها تمسح بكف يدها على جبينها وشعرها الحريري .. تتأمّلها ويختلج قلبها شعور بالفرح للحظات .. فغداً من أسعد أيام حياتها ، فميس كبرت وستذهب للمدرسة .. وشعور آخر للحظات حزينة وهي تطالع بنظرات شوق وحزن كبير لصورة زوجها المرحوم على الحائط المقابل للسرير ، والذي فارقهن بدون سابق إنذار ولا وداع ، فهو ليس بقربها ليشاركها هذه الفرحة المنتظرة بشوق وفرحة غامرة لكل أبوين .
خرجت الأم وطفلتها صباحاً بعد أن ألبستها الرداء المدرسي الجديد وحملت الطفلة الحقيبة المدرسية الجديدة على ظهرها والفرحة الكبيرة تغمرها ، وتوجهتا للمدرسة ثم دخلن للفناء الداخلي الواسع للمدرسة .. وتركت الأم يد ابنتها لتذهب مع الطالبات .. والاثنتان لا ترغبان بترك أيدي بعضهن البعض .. فهن لا يفترقن أبداً .. وتوارت الأم عن أعين ميس بعد أن اعترت شفتاها بسمة لأنها رأتها وقد تحدثت لطالبة جديدة أخرى من جيلها وتعارفتا وأمسكن بأيدي بعضهن البعض وسارتا سوية لغرفة الصف ، وسط ضجيج ولعب وصخب أصوات الطالبات .
كانت غرفة صف ميس في الطابق الأرضي وكانت المدرسة بشكل عام صغيرة ومتواضعة .. وكانت نوافذ الغرفة الصفية تطلّ على ساحة المدرسة ، ورجعت الأم ووقفت بجوار نافذة الصف دون أن يلحظها أحد وأخذت تسترق السمع والنظر وتطمئن على ابنتها ، وشاهدت المعلمة وهي تدخل الصف مبتسمة مرحّبـة ومداعبــة للطالبات الصغيرات .. وكانت هذه المعلمة جميلة ممشوقة القوام ترتدي ثوباً جميلاً أنيقاً .. وتخيلت الأم أن ابنتها ستكبر يوماً وتمنت أن تراها كهذه المعلمة .
في نهاية الحصة الأخيرة خرجت الطالبات وكانت الأم بالانتظار ، فأخذت بيد ميس ورجعن للمنزل والسعادة في قلبيهما لا توصف ولا حدود لها ، غيـّرت ميس ملابس المدرسة وجهزت الأم ما تيسر من الطعام وأكلن واسترحن قليلاً ، ثم أخرجت الطفلة دفاترها وكتبها .. وكان من أحد الواجبات المنزلية تلوين صفحة من كرّاس دفتر الرسم ، فساعدتها والدتها بتعليمها كيفية استخدام الألوان : الموز باللون الأصفر والبرتقال باللون البرتقالي .. الخ ، وجاء دور واجب اللغة العربية وما شرحته لها المعلمة من أحرف .. فسألت ميس أمها : ما هذا الحرف يا ماما ؟ فكانت هذه هي اللحظة التي لم تحسب الأم طوال حياتها لها حسابا، وكان حزنها في هذه اللحظات كبيراً جداً.. فهي أميّة لا تقرأ ولا تكتب ، فشعرت الأم بالألم والتقصير وعدم تمكنها من تعليم ومساعدة ابنتها .. فهي رغم استراقها للسّمع من نافذة الصف إلا أنها لم تركز على ما شرحته وقالته المعلمة في الدرس .
( 1 )
وفي اليوم التالي ذهبت لتوصل ابنتها للمدرسة كما في اليوم السابق .. ولكنها صمّمت أن تتعلم وبسرعة كبيرة ما تشرحه المعلمات للطالبات .. وأخذت تركز من طرف النافذة على ما تقوله وتكتبه المعلمة على اللوح ، وعندما انتهى الدوام المدرسي عادتا للمنزل .. وفعلاً استطاعت الأم أن تشرح وتعلم وتعيد لأبنتها ما تلقته من المعلمات .. وتكرر هذا الحال من الأم يومياً .. واستطاعت أن تتعلم هي وأن تعلـّم ابنتها ما لم تكن تستطيع فهمه من المعلمات أثناء الدرس .. وكانت سعيدة كل السعادة بذلك ، وتعودت بعض المعلمات وآذنة المدرسة على رؤية وتواجد الأم يومياً على هذا الحال وأصبح هناك ألفة ومودّة بينهنّ ، وفي بداية كل سنة كانت تغيّــر الأم نافذة الصف من واحدة لأخرى حسب نقل ميس من غرفة صفيـّة إلى أخرى جديدة .
وتوالت الأيام والشهور والسنين وأصبحت ميس في الصف الخامس .. وهنا تم نقلها لمدرسة أخرى أكبر جديدة .. ساحاتها أكبر وفيها أكثر من طابق .. وأتى ما لم يكن بالحسبان فلن تتمكن الأم من متابعة ابنتها وما كانت تفعله بالمدرسة السابقة طيلة الخمس سنوات ، وهذا ما جعلها تشعر بالألم والحزن .. ومكثت بالمنزل مهمومة شاردة الذهن تنتظر عودة ابنتها من المدرسة الجديدة على أحـرّ من الجمر والحيرة والشوق، إلى أن عادت ميس من المدرسة واحتضنت أمها بلهفة وحرارة شديدة وشوق عارم ، وقد أحضرت معها الكتب الجديدة .. وقالت لأمها : أنا يا ماما كنت أعلم أنك كنت تحضرين من جوار النافذة كل يوم ما نتعلمه حتى تعلمينني إيّــاه .. والآن جاء دوري أنا كي أتعلم وأعلمك ما آخذه بالمدرسة ، فأنا قد كبرت .. وأنت يكفيك تعباً ليلاً ونهاراً من أجلي ، فقد جاء دوري كي أشرح لك ما أتعلمه .. كما كنت أنت تفعلين لي يا أمي .
وتوالت السنين .. الابنة يشتد عودها وجمالها والأم تكبر وتهرم ، وترى نفسها بابنتها وتجد عزائها بعلم وخلق وأدب واحترام ابنتها لها .. إلى أن تخرجت ميس من الثانوية العامة وبتفوق كبير وحصلت على منحة مجانية لتكمل تعليمها الجامعي .. ولكن جاءها النصيب بعريس ذا خلق ودين .. ميسور الحال أعجبت والدتها به واطمأنت نفسها إليه ، ولكن الابنة رفضت .. لا لشخص العريس ولكن لكونها لا ترغب بمفارقة أمها .. وبعد تكرار أمها الطلب منها بالموافقة فقد احترمت والدتها ولكنها اشترطت على العريس شرطين الأول أن تقيم والدتها معهما في المنزل .. والثاني أن تكمل تعليمها الجامعي وتصبح معلمة كما كانت رغبة والدتها ، فوافق العريس بكل صدر رحب وازداد إعجابه وحبـّه لميس ، وتزوجا وسكنت الأم معهما وأكملت ميس تعليمها ورزقت بالأولاد وأصبحت معلمة ، وبعد هذا الكفاح والصبر ، والشقاء والحرمان الطويل منّ الله عليهم بالسعادة والسكينة والرزق .
جمال إبراهيم المصري
Jamalmasri60@gmail.com





تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :