أخر الأخبار
الصفحة الرئيسية المقالات طفل في الأربعين ..

طفل في الأربعين ..

24-12-2022 03:47 PM

المهندس عادل بصبوص

كان خليل أصغر إخوته جميعاً .... كنت في السادسة عشر من عمري عندما أطل إلى هذه الدنيا .... لم نكن ندرك حينما كنا نعاتب أمي مازحين على حملها المتأخر ... أن خليل سيكون أجمل هدية حملتها الأيام لنا ... كان الأجمل والأوسم بيننا جميعاً ... بشرة بيضاء وشعر أشقر ... وفوق ذلك وداعة وطيبة بلا حدود ... دائم البسمة مُشرِقُ المُحيا ....

لم تجد أمي يوم ولادته من يصطحبها من بيتنا في وادي السير إلى مستشفى الأشرفية "البشير لاحقاً" سوى شقيقتها زهره ... هي من قامت بتسميته خليل وهي من حملته في طريق العودة إلى البيت ...

نشأ خليل مدللاً ليس من أمه وأبيه فقط بل من سائر إخوته أيضاً ... لم يشهد خليل أيام الفقر والمعاناة التي عايشها اخوته الآخرون ... لكنه لم يكن متفوقاً في المدرسة كما كان سابقوه ... هل هو الدلال ... ربما ... فقد كان ذكياً ونبيهاً إلى جانب خصاله الجميلة الأخرى ... كنا نتجنب اغضابه أو القسوة عليه حتى لا يثير ذلك غضب أمي علينا .... كان في حوالي الثانية عشرة من عمره يوم حَمَلْتُهُ مسرعاً إلى مستشفى الأشرفية لإسعافه من ضربة الساطور التي أصابت خطأً جدار بطنه ... عندما كان يساعد أخي ابراهيم في تقطيع الأضحية المُعَلَّقَةِ "بمعرش" العنب صباح يوم العيد ... كان الشرطي المناوب في المستشفى على وشك حجزي وتوقيفي قبل أن أُقنعه بأن ذلك قد تم دون قصد مني أثناء تقطيعي لأضحية العيد ....

كنت أحث خليل على الدراسة بجد واجتهاد حتى يكمل دراسته الجامعية مثل إخوته ... ولتوفير جو دراسي ملائم له أثناء سنته الدراسية الأخيرة في المدرسة استقبلته للدراسة في منزلي وخصصت له غرفة الاستقبال الواسعة ...

حصل خليل على دبلوم الصيدلة من إحدى الكليات المتوسطة وسرعان ما التحق بالعمل لدى شركة دار الدواء لتصنيع الأدوية ... عمل لديهم مدة سنة واحدة ... تركها ليسافر إلى المملكة العربية السعودية للعمل في مصنع للأدوية هناك ... لم يحتمل الطفل المدلل لوالديه قسوة الغربة سوى ثلاثة شهور فقط ليعود بعدها إلى الأردن فَتُوَّظِفُهُ دار الدواء مجدداً لديها ....

بقي خليل يعيش في كنف والديه في بيت العائلة بعد أن تزوج سائر إخوته وأخته الوحيدة وغادر كل منهم إلى بيته الخاص .... تزوج خليل ورزق ببنين وبنات وبقي يقيم هو وعائلته الصغيرة بجوار والديه ... يُؤْنِسُ وحدتهما ويقوم بخدمتهما بنفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ....

كان خليل مثابراً شديد الإخلاص في عمله .... تقدم في سلم الوظيفة فتحول من موظف عادي إلى مشرف إنتاج ... وقد دفعه الطموح والرغبة بتحسين مستوى حياته إلى شراء مكتبة عَرَضَها صاحبها للبيع ... كانت المكتبة قريبة من مكان سكنه وقريبة أيضاً من عدد من المدارس في المنطقة ... كان يداوم في المكتبة مساءً بعد عودته من العمل فيما يتولى موظف ذلك في الفترة الصباحية .... كان يطمح أن يُطَوِّرَ المكتبة ويوسع أعمالها بحيث يستطيع ذات يوم أن يترك عمله في الشركة ويتفرغ لإدارتها ...

كان خليل يمثل بالنسبة لنا الجانب الأكثر اشراقاً في هذه الحياة ... كان يتسم بالبساطة بشوشاً دائم التفاؤل والأمل ... وفي ثنايا شخصيته صفات نادرة ونفس معطاءة شديدة الحنان .... تجلت بوضوح عندما اشتد المرض على أمي وغَدَتْ مُقْعَدَةً لا تفارق سريرها وتحتاج إلى من يقوم بخدمتها .... وضع مفاجئ لم نعتد عليه ... عرضنا أن تتناوب زوجاتنا وبناتنا القيام بذلك .... رفض خليل ذلك بشدة وقال لن يخدمها أحد غيري .... ولكنها امرأة والأفضل أن تخدمها نساء مثلها .. قلنا له .... أجاب هي أمي ولا أراها شيئاً آخر غير أنها أمي ... وأنا الأقرب لها ولن يحظى أحد بخدمتها سواي ....

كان يقوم بتلبية كل احتياجاتها وهو يمازحها أو ويغني لها كي لا تشعر بالضيق أو الحرج ... حتى تَقَرُّحات الظهر كان يتولى دهنها بالمراهم والمساحيق ... وَضَعَ لها برنامجاً صباحياً ينفذه قبل الانطلاق إلى العمل وآخر في المساء بعد عودته منه ... وخلال النهار كانت زوجته تقوم بتنفيذ أي متطلبات ثانوية قد تنشأ خلال النهار ....

توالت السنون وتوفيت والدتي وقبلها رحل أبي ... وبقي خليل وعائلته في بيت العائلة ... واصبحت زياراتنا قليلة إلى ذلك البيت الذي تخرجنا منه جميعاً إلى الحياة ... لكن خليل كان دائم التواجد والحضور في بيوتنا ترافقه إليها روحه العذبة الجميلة ... كنا نستقبله بكل الشوق والمحبة فهو وأن شارف على الأربعين ما زال بالنسبة لنا الطفل الصغير المدلل ... وننسى للحظات أنه رب أسرة وأب لولدين وثلاث بنات ....

علمت ذات يوم أواخر عام 2012 أن خليل متوعك صحياً وهو في اجازة مرضية لمدة أسبوع .... فقمت بالتواصل معه هاتفياً ليخبرني أن الأمر بسيط وأن الموضوع مجرد ارهاق وهو يتحسن باطراد .... لم اتوقف كثيراً عند الأمر فقد أخبرني بأنه يفكر في قطع الإجازة والعودة إلى العمل لتحسن حالته ... وهو ما تم فعلاً في اليوم التالي ....

هرعت إليه ذات مساء بعد اسبوعين عندما حادثني هاتفياً وأخبرني أنه في حالة تعب شديد لا يدري له سبباً .... شعرت بالقلق عندما رأيت محياه شاحباً يعتريه الذبول .... وسارعت إلى أخذه إلى طوارئ مستشفى الخالدي ... شرحنا الأعراض للطبيب المقيم ... الذي طلب إجراء عدة تحاليل للدم .... تأخرت النتائج بعض الوقت ... كنت أقف بجوار خليل المستلقي على السرير عندما لمحت الطبيب يؤشر لي من خارج الغرفة ...

سارعت للحاق به في الممر .... خير دكتور طلعت النتائج ... نعم طلعت قال الطبيب .... بس النتائج مش مطمئنة .... صعقتني كلمته الأخيرة ... شو في دكتور طمني أجبت بقلق ... هناك هبوط كبير بالدم والمناعة والصفائح الدموية رد الدكتور .... طيب شو يعني سألت مجدداً ... أجاب هذا ممكن يكون مؤشر على سرطان في الدم ...

سقطت الكلمات على أسماعي كالمطارق ... شعرت بالرعب الشديد ... شعور خبرته وجربته سابقاً قبل نحو سبع سنوات .... طيب والعمل تساءلت في فزع .... أجاب الدكتور عليكم مراجعة مركز الحسين للسرطان فوراً فالأمر خطير ولا يحتمل التأجيل ....

وقفت ساهماً وقد شلت الصدمة تفكيري ... ماذا عساي أفعل الآن ... ماذا أقول لخليل الذي ينتظر على جمر القلق من يقوم بطمأَنَتهِ وإخباره بأن الأمر وعكة بسيطة كالعادة .... رحمتك ولطفك يا الله ....

عدت إلى خليل الذي بادرني بالسؤال .... شو قال الدكتور .... أجبته كل خير بس الفحوصات لازم يشوفها دكتور متخصص من خارج المستشفى .... ايمتى سأل خليل بلهفة وقلق ... على طول هسه بنروح عليه ..
.
كانت الساعة تقارب التاسعة مساءً عندما تحركْتُ بالسيارة قاصداً مركز الحسين للسرطان ... كان خليل يجلس بجانبي ساهماً لا يدري ماذا يخبئ له القدر ولا يعرف إلى أين نحن ذاهبون ... كنت أقود السيارة وأنا في غاية التوتر والارتباك .... لم أتوقف للحظة عن الدعاء والتوسل إلى الله عزوجل أن يكون التشخيص الذي سمعته من طبيب مستشفى الخالدي غير صحيح .... كانت دقات قلبي تتسارع كلما اقتربنا من الوصول ... وصلنا الدوار المقابل للمركز .... انعطفت يميناً باتجاه المدخل ... انتفض خليل وسأل مذعوراً ... ليش جبتني هون .... أجابته متصنعاً الهدوء ... ما تخاف .... الدكتور اللي بدنا اياه بدوام هون ...

قصدنا طوارئ المركز ... حرصت أن أشرح ملابسات الموضوع بعيداً عن مَسْمَعِ خليل ... تمت إعادة فحوصات الدم من جديد ... كانت النتيجة صادمة ... فالأعراض والمؤشرات تشير إلى سرطان الدم ... كان لا بد من اخبار خليل بالموضوع فلم يعد من الممكن اخفاء ذلك عنه بعد قرر له الطبيب الإدخال الفوري إلى المركز .... قلت له إن الموضوع مجرد اشتباه وأن المؤشرات مطمئنة بيد أن الحكمة والحرص على صحته تقتضي إدخاله إلى المستشفى ... وأضفت أنه حتى لو تبين أن هناك سرطان فهو في بداياته وقابلية العلاج والشفاء منه مؤكدة تماماً .... كنت أتوقع ردة فعل شديدة من قبله ... توقعت منه أن يصرخ أن يبكي أن يتحسر ... لم يفعل شيئاً من ذلك فقط ازداد وجهه شحوباً .... أطرق رأسه إلى الأسفل قليلاً .... ثم قال الحمد لله على كل حال ... الأمل بوجه الله ...

كانت تلك الليلة بداية معركة خليل مع السرطان ... معركة استمرت سنة ونصف خسرها في النهاية ... عانى فيها وعانينا معه الكثير ... كان دوماً صابراً محتسباً ... قضى في المركز عدة شهور بين مد وجزر ... كانت تتحسن حالته بعد جرعات العلاج الكيماوي .... فنبتهج ونتفاءل لأيام أو أسابيع قليلة ثم تعاود الانتكاس ... تم تخديره عدة أسابيع عندما اصابه التهاب رئوي صاحبه سعال لم يستطع له احتمالاً ... كانت أصعب اللحظات التي مر بها ونحن كذلك عندما فقد الإبصار بفعل تداعيات المرض ... لن أنسى ذلك اليوم الذي أخرجته فيه من المستشفى ... وقفلنا عائدين الى البيت ... ترجلنا من السيارة .... طلبت منه الانتظار وعدم نزول الدرج المؤدي إلى البيت ريثما أوصل أغراضاً كنت أحملها .... عدت إليه سريعاً ... لأجده ينزل الدرج كما لو كان يبصر موضع قدميه ... صرخت عليه من بعيد توقف ... توقف .... ولكنه تابع النزول لتتعثر قدمه فيهوي ساقطاً ويرتطم رأسه بالأرض ...

قبل وفاته بأسابيع قليلة تحسنت حالته بشكل كبير مما سمح للأطباء المباشرة بإجراءات العلاج ... كان الأمر يتطلب زراعة نخاع العظم من متبرع مطابق في الأنسجة ... تم فَحْصَنا جميعاً وكانت النتائج غير مطابقة ... وجد المركز متبرعين مطابقين من خارج الأردن .... باشرنا بالإجراءات اللازمة لذلك .... إلا أن القدر كان أسرع منا جميعاً ....

مات خليل وقد أتم الأربعين من عمره .... وماتت معه أحلام طفل لم تكتمل ... كان يحلم أن يُوَّسِعَ المكتبة ويُطَوِّرَها ... وأن يعيش ليرى بناته زينه وميرا ولارا عرائس جميلات يزفهن بنفسه إلى بيوتهن ... وأن يرى في عمر ويوسف ما حلم به طويلاً ولم يستطع تحقيقه خلال سِنِيِّ حياته القصيرة ...

لم أبكي في حياتي كما بكيت على خليل ... كنت انفجر باكياً في بيت العزاء كلما حضر رفيق له أو صديق ... وبقيت أبكي بعدها كلما خطر على بالي ذلك الفتى النَّدِي الجميل الذي قست عليه الحياة ولم تمهله طويلاً ... يقولون أن الأيام تشفي الجراح ... وها هي ثماني سنوات عجاف قد مرت على الغياب وما زال جرحك في قلبي راعفاً يا خليل ... يرحمك الله ...





تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :