أخر الأخبار
الصفحة الرئيسية اجتماعي «المهطوان» .. لغة فرجوية مؤثثة بجماليات...

«المهطوان» .. لغة فرجوية مؤثثة بجماليات المبنى والمعنى

31-10-2022 02:35 PM
الشاهد -

مسألة تناول حياة أي مجتمع، وضمن حقبة تاريخية معينة، لا بد لها من تفكيك بنيتها كاملة ليكون هذا التناول منصفاً أو موضوعياً، وهذا الفهم هو ما حاولت أن تتصدى له درامياً مسرحية «المهطوان»، المأخوذة عن رواية رمضان الرواشدة، الذي كتب نصها المسرحي وأخرجها صلاح حوراني وعُرضت مؤخراً على مسرح هاني صنوبر.

في البدء لا نستطيع إلا الإقرار بحضور شخصية المؤلف الرواشدة من حيث حضور ملامح من سيرته الذاتية في العمل، لكن حضورها يظهره كشخصية مثل الشخصيات الأخرى، وبالتالي جاء هذا الحضور من باب إظهار المعايشة الواقعية والحميمة للأحداث والشخوص، لا بل لصالح ظهور الزخم العاطفي والتعبيري للشخوص الأخرى، وبالتالي لا تعدّ حالة من حالات الكتابة الشخصية عن صاحبها.

ولما كانت بنية التأليف لدى الرواشدة عموماً تجيء ضمن الرواية الحداثية، التي تعتمد على القطع والاستذكار والتداعيات الحرة والانثيالات التي تحتاج أيضا إلى تكنيك روائي مرن، فإنها ساعدت تقنياً، لا بل سهّلت على المخرج كتابة نص العرض المسرحي.

استعادت المسرحية أحداثاً سياسية واجتماعية، قبل تعريب الجيش الأردني منذ أن كان كلوب باشا قائداً له. مروراً بالثمانينيات، في الأجواء التي شهدت نشاطات طلابية احتجاجية في الجامعة الأردنية، كردة فعل على احتلال جنوب لبنان من طرف جيش الاحتلال الإسرائيلي، والذي كانت من تداعياته حدوث مجزرة صبرا وشاتيلا. وانتهاء بأحداث عودة الانتخابات البرلمانية إلى الحياة السياسية المحلية في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي.

وقد رصدت هذه الاستعادة تأثير أحداث سياسية غير قليلة، ومنها تأثير مجزرة صبرا وشاتيلا على المزاج العام في الشارع العربي، وأيضاً تأثير الانتخابات البرلمانية على الخريطة الحزبية الأردنية، عبر حياة أفراد أسرة كركية ينضوون ضمن الفكر اليساري.

وكشفت أحداث المسرحية الدرامية، التأثير المباشر على بنية الأحزاب المحلية، من حيث ضعفها وتفرقها، وبخاصة اليسارية منها، بسبب قرار الانتخابات البرلمانية. ومن جهة أخرى غياب الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي في آن، عن الخريطة السياسية العالمية جراء سياسات البيريسترويكا التي قادها غورباتشوف، وكانت الإشارة الأخيرة على انتهاء حقبة الاشتراكية كمنظومة عالمية.

وأظهرت المسرحية المعطى الأخير (ضعف البنية الحزبية اليسارية في الأردن)، في مشهد عودة «المهطوان» من الاعتقال إلى بيت والدته، وحديثه مع المسؤول الحزبي. وتؤكد سينوغرافية المشهد هذا التحول أو الانزياح في المنهج الفكري، إذ إن الرؤية الإخراجية وضعت خلفية هذا المشهد، وفق نظام السيمياء الدلالية، الذي صممه غسان مفاضلة؛ وظهرت على اليمين صورة (حنظلة) لناجي العلي، وعلى اليسار وفق نظام الألسنية عبارة (عرار)، وما لهما من مدلول على المزاج السياسي لدى المواطنين سواء في الأردن، أو في أقطار الوطن العربي عموماً.

أنجزت الرؤية الإخراجية مشروعها الدرامي، بتركيز الفعل الدلالي على محمولات تبدل وتنوع مشاعر الشخوص في سياق تطور الأحداث الدرامية، (الأم ثقلة)، زوجة (عودة) الرجل المبدئي، التي جسدتها ناريمان عبد الكريم، وأظهرها السياق بدورها وتأثيرها المركزي على التطور الأخلاقي لابنها (عودة)، الذي قدمه أمجد حجازين، بعبارتها الأثيرية: (لا أقبلك إلا رجل حق).

كما أظهرت هذه الرؤية دور (ثقلة) الاقتصادي في دعم البيت من خلال عملها الحرفي بتجهيز الصوف في صناعة الفرشات، ولكون الأسرة أصبحت يسارية فقد أطلقت عليها (كروبسكايا)، في إشارة إلى زوجة مؤسس الاتحاد السوفياتي (لينين)، التي وقفت معه ودعمته نفسياً وعائلياً وخصوصاً في آخر حياته.

وحضرت محمولات المسرحية وفق سياق تطور وتبدل مشاعر الشخوص؛ في تجسيد شخصيات (المسؤول الحزبي)، و(غسان الحوراني)، و(عندليب العرض)، الذين قدمهم يوسف كيوان، وبخاصة في أدائه للشخصية الأخيرة، حيث طغت جماليات صوته على أنساق الأداء الصوتي للعرض، سواء لرخامة صوته في أداء الأغاني، أو المواويل، هذا من جهة. ومن جهة أخرى لمعاني منطوقاتها في أدائه لإحدى أغاني فرقة "بلدنا" بصوت كمال خليل وفرقته (غنيله يا أحلى المدن.. أحمد على الموت انتصر.. ما أزهى شمسك يا وطن)، وذلك في سياق الاحتفاء بإستشهاد الشاب أحمد المجالي مع الفدائيين ?لفلسطينيين في الدفاع عن المخيمات في لبنان.

وكان الاشتغال الإخراجي على أنساق الأداء الصوتي، الذي وضعه وشارك فيه ووازنه مراد دمرجيان، موفقاً جداً في طرح المعنى، بفعل تبدل وتغيّر هذا النسق على تنوع الأصوات، كما في المشهد الافتتاحي، الذي جاء بعد الدقات الثلاث، وهي الإشارة التي تطلق، كما هو معروف مسرحياً على مستوى العالم، لبدء أي عرض.

وواصل هذا الاشتغال على التنوع بطرح الأصوات منطوقةً وغير منطوقةً: منطوقة؛ كالغنائية التي ذُكرت، ومنها (سلاما على وطن الطيبين) للشاعر الراحل حبيب الزيودي بصوت مكادي النحاس، والأغنية الشعبية (تحوم المنايا يا اللي تجي يا سلامه) لعبده موسى، التي هجت معانيها في سياق الأحداث، سلطة كلوب باشا وظلمه لـ(عودة) زوج (ثقلة). وهناك أصوات غير منطوقة، كالنبرات والهمهمات، التي أشارت إلى آلام وأحزان مجاميع الناس في سياق هذا المشهد.

وبشأن تركيز الرؤية الإخراجية على إطلاق الفعل الدلالي من تبدل المشاعر وتطورها لدى تنوع الشخوص؛ فقد جاء ذلك في ما قدمته تلك الرؤية في سياق تصميمها لشخصية (الراوي) الذي تقمصه عمران العنوز، وجاءت ضمن مسار تعميق الزخم التعبيري للعرض، التي كان فعلها الدلالي يظهر في المفاصل الدرامية من تطور الأحداث.

بينما جاءت محمولات شخصية (سلمى) التي قدمتها لونا الحكيم، نحو إظهار العلاقة المتميزة الحميمة الإيجابية بين الضفتين على مختلف الصعد، وجاءت شخصية (قائدة الجوقة) التي قدمتها سارة بلبل، لتقود الألحان والأنغام الخاصة بالأنساق الصوتية، ومسارات اندفاعات الشخوص، بعنفوانها وخيباتها وأحلامها بغد مشرق.

كما كانت هناك مساهمات قوية في أداء صلاح بني حمد في شخصيتي (رفيق العراف) و(فارس خيال الظل)، وحيدر الحوراني (لاعب الدمى).

وكانت أنساق الأداء البصري لا تقل قوة في الفعل الدلالي عن الصوتي، حيث لعبت الإضاءة التي صممها ونفذها ماهر جريان دوراً محورياً في طرح سينغرافية العرض، إيحائياً ودلالياً، وبخاصة تصميم حركة الممثل منفرداَ، أو ضمن منظورات حركة الممثلين مجتمعين ضمن المشاهد واللوحات المتنوعة، وأيضاً أزياء الملابس التي صممتها آني قره ليان، فضلاً عن التصميم الكوريوغرافي الذي كان يكمل بناء الشخصية الظاهرية.

كذلك إنشاء ديكور المنصة المرتفعة في بؤرة المسرح، التي كانت المكان الذي يظهر منه الحكواتي على الجمهور، فكانت إيحاءاتها ومعانيها تشكل مع فعل الحكواتي في حالات غير قليلة، مشاهد حوت استعارات ومجازات بصرية عمقت لمدلولات جميع حوارات (الحكواتي).

وبعد هذا التحليل والتفكيك السريعين لبنى المسرحية البصرية والسمعية، يجد المشاهد أنه كان مستمتعاً مغتبطاً بفرجة لا بل باحتفال مسرحي بامتياز، استنطق فترة تاريخية من حياة الناس، بعيداً عن المتحفية والمباشرة السياسية وسرد الأحداث كتحليل اخباري، وقريباً من الفضاء الطقسي الناشد للاحتفال الإنساني، والحاجة الجماعية والعفوية للحرية والتعبير عن الذات.

وتحقق هذا الفضاء الفرجوي، على المسرح بانجماع أنساق الجماليات الصوتية والبصرية، في بنية احتفالية تنشد انعتاق الروح والجسد من أغلال قيود السائد اجتماعياً وسياساً. وقد طُرحت بلغة مسرحية، تميزت ببلاغة متناهية في الجمال؛ مظهرَها أداء جسد الممثل بمختلف تقنياته؛إيماءً، وحركةً، أفقيةً وعموديةً ودائريةً.

(ناقد مسرحي)




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :