أخر الأخبار
الصفحة الرئيسية المقالات الصوم مشروع تعبوي شامل

الصوم مشروع تعبوي شامل

07-06-2018 11:10 AM

د. رحيل محمد غرايبة

الصيام في المقام الاول عبادة روحانية لطيفة شفافة وراقية, تحترم ارادة الانسان وتقدر حريتة, إذ إن الصائم يقوم بهذه العبادة بينه وبين الله تماماً, ولا يستطيع أحد أن يقهر أحدا على الصيام ، لأنّ الفرد يستطيع أن ينتهك الصيام وحده دون حسيب أو رقيب, ولذلك لا مجال لإتمام عبادة الصيام على وجهها الكامل الاّ بارادة داخلية سرية ومكتومة, وعزيمة ذاتية غير منظورة ومن هنا يفهم معنى الحديث القدسي ( كل عمل ابن آدم له الاّ الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ) فالله وحده هو المطلع على من ينتهك صيامه خفية, وبعيداً عن أعين الناس .
ومن هذا الفهم الدقيق لهذه العبادة يأتي الفهم السليم للفلسفة العميقة للصيام التي تتسم بالجمال, حيث يقدم الانسان بمحض إرادته على الصيام بهذه الرياضة الروحّية التي ينتشل المرء نفسه من الهبوط إلى ذلك المستنقع الهابط الذي يصبح فيه الانسان مستعبداً لنهم الطعام والشراب, ومستغرقاً بكل قواه في زيادة اللذة المادية التي ليس لها حدود ولا سقوف, ويصبح عند ذلك متجردا من عالم القيم ويهبط من عالم المثل, ويتخلى عن رسالته الادمية السامية التي تعطي المعنى الرسالي الجميل للحياة, والتي تهب قيم الجمال لدوره في الإعمار والاصلاح في الكون ، والتربية والتهذيب وصيانة منظومة القيم الآدمية النبيلة.
يحتاج الانسان إلى محطة تقويم ومراجعة اجبارية في كل عام لمسيرته خلال أحد عشر شهراً, من أجل عمل جردة حساب ختامية موضوعية وعادلة لمجمل نشاطه السنوي ؛ حتى يستطيع كل واحد فينا أن يقف على حقيقة الجهود والأعمال والأرباح والخسائر طوال مسيرة حياته التي قضى فيها كثيراً من الأوقات, وبذل من صحته وجهده وأعصابه وعرقه واحساسه, وأصاب بدنه الارهاق وهجمت علية الامراض والأسقام من كل جانب وتكاثرت عليه الهموم من كل حدب وصوب .
يحتاج كل واحد فينا أن يجيب عن مجموعة من أسئلة مصيرية وعلى درجة عالية من الأهمية والدقة, وعلى رأسها السؤال الكبير : هل أنا أسير في الطريق الصحيح ؟ وهل كل ما بذلته في هذه الحياة وضع في مكانه السليم ؟ إنه سؤال كبير ومحرج والاجابة ليست سهلة وليست بتلك البساطة, فعندما تستغرق في عبادة الصيام المصحوبة بهذا التأمل العميق قد تأتيك لحظة صفاء وهدوء في بعض أوقات السحر, تسعفك في ملامسة بعض أطراف الحقيقة .
الصوم المتمثل في عملية التدريب على حديث النفس, وامتلاك القدرة على مخاطبتها بعد ترويضها وتخفيف استغراقها في الشهوة، وعندما تسكن مذعنة للسؤال, يبدأ الحوار الجدي بينك وبينها بصدق وتجرد, فهل استطعت أن تتمثل خلق المسامحة ؟ وهل استطعت أن تملك نفسك عند الغضب ؟ وهل استطعت أن تمسك لسانك عن الغيبة والنميمة والثرثرة والولوغ في أعراض الناس ؟ وهل استطعت أن تقبض يدك عن الامتداد للمال الحرام, وهل منعت قدمك من السير في طريق الباطل ؟ وهل استطعت أن ترفع احساسك ومشاعرك نحو حب الاخرين ومساعدتهم وتقديم الخدمة لهم, وهل استطعت أن تقنع نفسك باقتطاع بعض مالك للصدقة على الأيتام والأرامل والفقراء والجوعى ؟وهل يصب نشاطك في بناء وطنك وخدمة اهلك وشعبك ؟ أم أنك ما زلت غارقاً في حمّى الشهوات، وفي رمضان زاد نهمك للملذات وزاد منسوب الأنانية المفرطة لديك في الحصول على المكاسب ومزاحمة الآخرين ، وكنت سبباً في زيادة منسوب الأذى للمارة, وزاد لديك حس احتقار الآخرين والاستعلاء عليهم ؟
هذا امتحان سري للغاية ومكتوم لا يعلم به أحد سواك ولا يطلع عليه أحد الاّ انت ورب الخلق الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم . .




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :